فصل: من أقوال المفسرين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

النوع الثاني: من البيانات أمر الله رسوله أن يذكرها قوله تعالى: {قُلْ إِنّى أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ الله مُخْلِصًا لَّهُ الدين} قال مقاتل: إن كفار قريش قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم ما يحملك على هذا الدين الذي أتيتنا به؟ ألا تنظر إلى ملة أبيك وجدك وسادات قومك يعبدون اللات والعزى! فأنزل الله، قل يا محمد إني أمرت أن أعبد الله مخلصًا له الدين، وأقول إن التكليف نوعان أحدهما: الأمر بالاحتراز عما لا ينبغي والثاني: الأمر بتحصيل ما ينبغي، والمرتبة الأولى مقدمة على المرتبة الثانية بحسب الرتبة الواجبة اللازمة، إذا ثبت هذا فنقول إنه تعالى قدم الأمر بإزالة ما ينبغي فقال: {اتقوا رَبَّكُمُ} لأن التقوى هي الاحتراز عما لا ينبغي ثم ذكر عقيبه الأمر بتحصيل ما ينبغي فقال: {إِنّى أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ الله مُخْلِصًا لَّهُ الدين} وهذا يشتمل على قيدين أحدهما: الأمر بعبادة الله الثاني: كون تلك العبادة خالصة عن شوائب الشرك الجلي وشوائب الشرك الخفي، وإنما خص الله تعالى الرسول بهذا الأمر لينبه على أن غيره بذلك أحق فهو كالترغيب للغير، وقوله تعالى: {وَأُمِرْتُ لأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ المسلمين} لا شبهة في أن المراد إني أول من تمسك بالعبادات التي أرسلت بها، وفي هذه الآية فائدتان:
الفائدة الأولى: كأنه يقول إني لست من الملوك الجبابرة الذين يأمرون الناس بأشياء وهم لا يفعلون ذلك، بل كل ما أمرتكم به فأنا أول الناس شروعًا فيه وأكثرهم مداومة عليه.
الفائدة الثانية: أنه قال: {إِنّى أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ الله} والعبادة لها ركنان عمل القلب وعمل الجوارح، وعمل القلب أشرف من عمل الجوارح، فقدم ذكر الجزء الأشرف وهو قوله: {مُخْلِصًا لَّهُ الدين} ثم ذكر عقيبه الأدون وهو عمل الجوارح وهو الإسلام، فإن النبي صلى الله عليه وسلم فسر الإسلام في خبر جبريل عليه السلام بالأعمال الظاهرة، وهو المراد بقوله في هذه الآية: {وَأُمِرْتُ لأَن أَكُونَ أَوَّلَ المسلمين} وليس لقائل أن يقول ما الفائدة في تكرير لفظ {أُمِرْتُ} لأنا نقول ذكر لفظ {أُمِرْتُ} أولًا في عمل القلب وثانيًا في عمل الجوارح ولا يكون هذا تكريرًا.
الفائدة الثالثة: في قوله: {وَأُمِرْتُ لأَن أَكُونَ أَوَّلَ المسلمين} التنبيه على كونه رسولًا من عند الله واجب الطاعة، لأن أول المسلمين في شرائع الله لا يمكن أن يكون إلا رسول الله، لأن أول من يعرف تلك الشرائع والتكاليف هو الرسول المبلغ، ولما بين الله تعالى أمره بالإخلاص بالقلب وبالأعمال المخصوصة، وكان الأمر يحتمل الوجوب ويحتمل الندب بين أن ذلك الأمر للوجوب فقال: {قُلْ إِنّى أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبّى عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} وفيه فوائد:
الفائدة الأولى: أن الله أمر محمدًا صلى الله عليه وسلم أن يجري هذا الكلام على نفسه، والمقصود منه المبالغة في زجر الغير عن المعاصي، لأنه مع جلالة قدرة وشرف نبوته إذا وجب أن يكون خائفًا حذرًا عن المعاصي فغيره بذلك أولى.
الفائدة الثانية: دلت الآية على أن المرتب على المعصية ليس حصول العقاب بل الخوف من العقاب، وهذا يطابق قولنا: إن الله تعالى قد يعفو عن المذنب والكبيرة، فيكون اللازم عند حصول المعصية هو الخوف من العقاب لا نفس حصول العقاب.
الفائدة الثالثة: دلت هذه الآية على أن ظاهر الأمر للوجوب، وذلك لأنه قال في أول الآية: {إِنّى أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ الله} ثم قال بعده: {قُلْ إِنّى أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبّى عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} فيكون معنى هذا العصيان ترك الأمر الذي تقدم ذكره، وذلك يقتضي أن يكون تارك الأمر عاصيًا، والعاصي يترتب عليه الخوف من العقاب، ولا معنى للوجوب إلا ذلك.
النوع الثالث: من الأشياء التي أمر الله رسوله أن يذكرها قوله: {قُلِ الله أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَّهُ دِينِى} فإن قيل ما معنى التكرير في قوله: {قُلْ إِنّى أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ الله مُخْلِصًا لَّهُ الدين} وقوله: {قُلِ الله أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَّهُ دِينِى}؟، قلنا هذا ليس بتكرير؛ لأن:
الأول: إخبار بأنه مأمور من جهة الله بالإتيان بالعبادة.
والثاني: إخبار بأنه أمر بأن لا يعبد أحدًا غيره، وذلك لأن قوله: {أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ الله} لا يفيد الحصر وقوله تعالى: {قُلِ الله أَعْبُدُ} يفيد الحصر يعني الله أعبد ولا أعبد أحدًا سواه، والدليل عليه أنه لما قال بعد: {قُلِ الله أَعْبُدُ} قال بعده: {فاعبدوا مَا شِئْتُمْ مّن دُونِهِ} ولا شبهة في أن قوله: {فاعبدوا مَا شِئْتُمْ مّن دُونِهِ} ليس أمرًا بل المراد منه الزجر، كأنه يقول لما بلغ البيان في وجوب رعاية التوحيد إلى الغاية القصوى فبعد ذلك أنتم أعرف بأنفسكم، ثم بين تعالى كمال الزجر بقوله: {قُلْ إِنَّ الخاسرين الذين خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ} لوقوعها في هلاك لا يعقل هلاك أعظم منه، وخسروا أهليهم أيضًا لأنهم إن كانوا من أهل النار فقد خسروهم كما خسروا أنفسهم، وإن كانوا من أهل الجنة، فقد ذهبوا عنهم ذهابًا لا رجوع بعده ألبتة، وقال ابن عباس: إن لكل رجل منزلًا وأهلًا وخدمًا في الجنة، فإن أطاع أعطى ذلك، وإن كان من أهل النار حرم ذلك فخسر نفسه وأهله ومنزله وورثه غيره من المسلمين، والخاسر المغبون، ولما شرح الله خسرانهم وصف ذلك الخسران بغاية الفظاعة فقال: {أَلاَ ذَلِكَ هُوَ الخسران المبين} كان التكرير لأجل التأكيد الثاني: أنه تعالى ذكر في أول هذه الكلمة حرف ألا وهو للتنبيه، وذكر التنبيه في هذا الموضع يدل على التعظيم كأنه قيل إنه بلغ في العظمة إلى حيث لا تصل عقولكم ليها فتنبهوا لها.
الثالث: أن كلمة {هو} في قوله: {هُوَ الخسران المبين} تفيد الحصر كأنه قيل كل خسران فإنه يصير في مقابلته كل خسران الرابع: وصفه بكونه مبينًا: يدل على التهويل، وأقول قد بينا أن لفظ الآية يدل على كونه خسرانًا مبينًا فلنبين بحسب المباحث العقلية كونه خسرانًا مبينًا، وأقول نفتقر إلى بيان أمرين إلى أن يكون خسرانًا ثم كونه مبينًا أما الأول: فتقريره أنه تعالى أعطى هذه الحياة وأعطى العقل، وأعطى المكنة وكل ذلك رأس المال، أما هذه الحياة فالمقصود منها أن يكتسب فيها الحياة الطيبة في الآخرة.
وأما العقل فإنه عبارة عن العلوم البديهية وهذه العلوم هي رأس المال والنظر، والفكر لا معنى له إلا ترتيب علوم ليتوصل بذلك الترتيب إلى تحصيل علوم كسبية، فتلك العلوم البديهية المسماة بالعقل رأس المال وتركيبها على الوجوه المخصوصة يشبه تصرف التاجر في رأس المال وتركيبها على الوجوه بالبيع والشراء، وحصول العلم بالنتيجة يشبه حصول الربح، وأيضًا حصول القدرة على الأعمال يشبه رأس المال، واستعمال تلك القوة في تحصيل أعمال البر والخير يشبه تصرف التاجر في رأس المال، وحصول أعمال الخير والبر يشبه الربح، إذا ثبت هذا فنقول: إن من أعطاه الله الحياة والعقل والتمكن، ثم إنه لم يستفد منها لا معرفة الحق ولا عمل الخير ألبتة كان محرومًا عن الربح بالكلية، وإذا مات فقد ضاع رأس المال بالكلية فكان ذلك خسرانًا، فهذا بيان كونه خسرانًا وأما الثاني: وهو بيان كون ذلك الخسران مبينًا فهو أن من لم يربح الزيادة ولكنه مع ذلك سلم من الآفات والمضار، فهذا كما لم يحصل له مزيد نفع لم يحصل له أيضًا مزيد ضرر، أما هؤلاء الكفار فقد استعملوا عقولهم التي هي رأس مالهم في استخراج وجوه الشبهات وتقوية الجهالات والضلالات، واستعملوا قواهم وقدرهم في أفعال الشر والباطل والفساد، فهم قد جمعوا بين أمور في غاية الرداءة أولها: أنهم أتعبوا أبدانهم وعقولهم طلبًا في تلك العقائد الباطلة والأعمال الفاسدة وثانيها: أنهم عند الموت يضيع عنهم رأس المال من غير فائدة وثالثها: أن تلك المتاعب الشديدة التي كانت موجودة في الدنيا في نصرة تلك الضلالات تصير أسبابًا للعقوبة الشديدة والبلاء العظيم بعد الموت، وعند الوقوف على هذه المعاني يظهر أنه لا يعقل خسران أقوى من خسرانهم، ولا حرمان أعظم من حرمانهم، ونعوذ بالله منه.
ولما شرح الله تعالى أحوال حرمانهم عن الربح وبين كيفية خسرانهم، بين أنهم لم يقتصروا على الحرمان والخسران، بل ضموا إليه استحقاق العذاب العظيم والعقاب الشديد، فقال: {لَهُمْ مّن فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مّنَ النار وَمِن تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ} والمراد إحاطة النار بهم من جميع الجوانب، ونظيره في الأحوال النفسانية إحاطة الجهل والحرمان والحرص وسائر الأخلاق الذميمة بالإنسان، فإن قيل الظلل ما على الإنسان فكيف سمى ما تحته بالظلل؟ والجواب من وجوه الأول: أنه من باب إطلاق اسم أحد الضدين على الآخر كقوله: {وجزاء سيئة سيئة مثلها} [الشورى: 40]، الثاني: أن الذي يكون تحته يكون ظلة لإنسان آخر تحته لأن النار دركات كما أن الجنة درجات والثالث: أن الظلة التحتانية إذا كانت مشابهة للظلة الفوقانية في الحرارة والإحراق والإيذاء، أطلق اسم أحدهما على الآخر لأجل المماثلة والمشابهة.
قال الحسن هم بين طبقتين من النار لا يدرون ما فوقهم أكثر مما تحتهم، ونظير هذه الآية قوله تعالى: {يَوْمَ يغشاهم العذاب مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ} [العنكبوت: 55] وقوله تعالى: {لَهُم مّن جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ} [الأعراف: 41].
ثم قال تعالى: {ذلك يُخَوّفُ الله بِهِ عِبَادَهُ} أي ذلك الذي تقدم ذكره من وصف العذاب فقوله: {ذلك} مبتدأ وقوله: {يُخَوّفُ الله بِهِ عِبَادَهُ} خبر، وفي قوله: {يُخَوّفُ الله بِهِ عِبَادَهُ} قولان الأول: التقدير ذلك العذاب المعد للكفار هو الذي يخوف الله به عباده أي المؤمنين، لأنا بينا أن لفظ العباد في القرآن مختص بأهل الإيمان وإنما كان تخويفًا للمؤمنين لأجل أنهم إذا سمعوا أن حال الكفار ما تقدم خافوا فأخلصوا في التوحيد والطاعة الوجه الثاني: أن هذا الكلام في تقدير جواب عن سؤال، لأنه يقال إنه تعالى غني عن العالمين منزه عن الشهوة والانتقام وداعية الإيذاء، فكيف يليق به أن يعذب هؤلاء المساكين إلى هذا الحد العظيم، وأجيب عنه بأن المقصود منه تخويف الكفار والضلال عن الكفر والضلال، فإذا كان التكليف لا يتم إلا بالتخويف والتخويف لا يكمل الانتفاع به إلا بإدخال ذلك الشيء في الوجود وجب إدخال ذلك النوع من العذاب في الوجود تحصيلًا لذلك المطلوب الذي هو التكليف، والوجه الأول عندي أقرب، والدليل عليه أنه قال بعده: {يا عِبَادِ فاتقون} وقوله: {يا عبادِ} الأظهر منه أن المراد منه المؤمنون فكأنه قيل المقصود من شرح عذاب الكفار للمؤمنين تخويف المؤمنين في أيها المؤمنون بالغوا في الخوف والحذر والتقوى. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {قُلْ إني أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ الله مُخْلِصًا لَّهُ الدين} تقدّم أول السورة {وَأُمِرْتُ لأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ المسلمين} من هذه الأمة، وكذلك كان؛ فإنه كان أول من خالف دين آبائه، وخلع الأصنام وحطمها، وأسلم لله وآمن به، ودعا إليه صلى الله عليه وسلم.
واللام في قوله: {لأَنْ أَكُونَ} صلة زائدة؛ قاله الجرجاني وغيره.
وقيل: لام أجل.
وفي الكلام حذف أي أمرت بالعبادة {لأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ المسلمين}.
قوله تعالى: {قُلْ إني أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} يريد عذاب يوم القيامة.
وقاله حين دعاه قومه إلى دين آبائه؛ قاله أكثر أهل التفسير.
وقال أبو حمزة الثمالي وابن المسيّب: هذه الآية منسوخة بقوله تعالى: {لِّيَغْفِرَ لَكَ الله مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} [الفتح: 2] فكانت هذه الآية من قبل أن يغفر ذنب النبي صلى الله عليه وسلم.
قوله تعالى: {قُلِ الله أَعْبُدُ} {اللَّهَ} نصب ب {أَعْبُدُ} {مُخْلِصًا لَّهُ دِينِي} طاعتي وعبادتي.
{فاعبدوا مَا شِئْتُمْ مِّن دُونِهِ} أمر تهديد ووعيد وتوبيخ؛ كقوله تعالى: {اعملوا مَا شِئْتُمْ} [فصلت: 40].
وقيل: منسوخة بآية السيف.
قوله تعالى: {قُلْ إِنَّ الخاسرين الذين خسروا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ القيامة} قال ميمون بن مهران عن ابن عباس: ليس من أحد إلا وقد خلق الله له زوجة في الجنة، فإذا دخل النار خسر نفسه وأهله.
في رواية عن ابن عباس: فمن عمل بطاعة الله كان له ذلك المنزل والأهل إلا ما كان له قبل ذلك، وهو قوله تعالى: {أولئك هُمُ الوارثون} [المؤمنون: 10].
قوله تعالى: {لَهُمْ مِّن فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِّنَ النار وَمِن تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ} سمى ما تحتهم ظللًا؛ لأنها تظل من تحتهم، وهذه الآية نظير قوله تعالى: {لَهُمْ مِّن جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ} [الأعراف: 41] وقوله: {يَوْمَ يَغْشَاهُمُ العذاب مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ} [العنكبوت: 55].
{ذَلِكَ يُخَوِّفُ الله بِهِ عِبَادَهُ} قال ابن عباس: أولياءه.
{ياعباد فاتقون} أي يا أوليائي فخافون.
وقيل: هو عام في المؤمن والكافر.
وقيل: خاص بالكفار. اهـ.

.قال الألوسي:

{قُلْ إِنّى أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ الله مُخْلِصًا لَّهُ الدين} أي من كل ما يخل به من الشرك والرياء وغير ذلك؛ أمر عليه الصلاة والسلام ببيان ما أمر به نفسه من الإخلاص في عبادة الله عز وجل الذي هو عبارة عما أمر به المؤمنون من التقوى مبالغة في حثهم على الإتيان بما كلفوه وتمهيدًا لما يعقبه مما خوطب به المشركون.
وعدم التصريح بالآمر لتعين أنه الله عز وجل، وقيل: للإشارة إلى أن هذا الأمر مما ينبغي امتثاله سواء صدر منه تعالى أم صدر من غيره سبحانه.
{وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ المسلمين} أي وأمرت بذلك لأجل أن أكون مقدم المسلمين في الدنيا والآخرة لأن إحراز قصب السبق في الدين بالإخلاص فيه وإخلاصه عليه الصلاة والسلام أتم من إخلاص كل مخلص فالمراد بالأولية الأولية في الشرف والرتبة، والعطف لمغايرة الثاني الأول بتقييده بالعلة والإشعار بأن العبادة المذكورة كما تقتضي الأمر بها لذاتها تقتضيه لما يلزمها من السبق في الدين، وإلى حذف متعلق الأمر وكون اللام تعليلية ذهب البصريون في هذه الآية ونحوها؛ وذهب غيرهم إلى أنها زائدة، واستدل له بتركها في قوله تعالى: {وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ المسلمين} [النمل: 91] {وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ المؤمنين} [يونس: 104] {وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ} [الأنعام: 14] وكل ذلك محتمل لتقدير اللام فلا تغفل؛ ولا تزاد إلا مع أن لفظًا أو تقديرًا دون الاسم الصريح وذلك لأن الأصل في المفعول به أن يكون اسمًا صريحًا فكأنها زيدت عوضًا من ترك الأصل إلى ما يقول مقامه كما يعوض السين في اسطاع عوضًا من ترك الأصل الذي هو أطوع، وهذه الزيادة وإن كانت شاذة قياسًا إلا أنها لما كثرت استعمالًا جاز استعمالها في القرآن والكلام الفصيح، ومثل هذا يقال في زيادتها مع فعل الإرادة نحو أردت لأن أفعل.
وجعل الزمخشري وجه زيادتها معه أنها لما كان فيها معنى الإرادة زيدت تأكيدًا لها وجعل وجهًا في زيادتها مع فعل الأمر أيضًا لاسيما والطلب والإرادة عندهم من باب واحد، وفي المعنى أوجه أن أكون أول من أسلم في زماني ومن قومي أي إسلامًا على وفق الأمر، وأن أكون أول الذين دعوتهم إلى الإسلام إسلامًا، وأن أكون أول من دعا نفسه إلى ما دعا إليه غيره لأكون مقتدى بي قولي وفعلي جميعًا ولا تكون صفتي صفة الملوك الذين يأمرون بما لا يفعلون، وأن أفعل ما أستحق به الأولية والشرف من أعمال السابقين دلالة على السبب وهي الأعمال التي يستحق بها الشرف بالمسبب وهو الأولية والشرف المذكور في النظم الجليل ذكر ذلك الزمخشري.
وفي الكشف المختار من الأوجه الأربعة الوجه الثاني فإنه المكرر الشائع في القرآن الكريم وفيه سائر المعاني الأخر من موافقة القول الفعل ولزوم أولية الشرف من أولية التأسيس مع أنه ليس فيه أنه أمر بأن يكون أشرف وأسبق فافهم.
{قُلْ إِنّى أَخَافُ إِنْ إِنَّهُ رَبّى} بترك الإخلاص والميل إلى ما أنتم عليه من الشرك، وجوز العموم أي أخاف إن عصيته بشيء من المعاصي {عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} هو يوم القيامة، ووصفه بالعظمة لعظمة ما فيه من الدواهي والأهوال، وهو مجاز في الظرف أو الإسناد وهو أبلغ ولذا عدل عن توصيف العذاب بذاك والمقصود من قول ذلك لهم تهديدهم والتعريض لهم بأنه عليه الصلاة والسلام مع عظمته لو عصى الله تعالى ما أمن العذاب فكيف بهم.
{قُلِ الله أَعْبُدُ} لا غيره سبحانه لا استقلالًا ولا اشتراكًا {مُخْلِصًا لَّهُ دِينِى} حال من فاعل {أَعْبُدُ} فقيل مؤكدة لما أن تقديم المفعول قد أفاد الحصر وهو يدل على إخلاصه عن الشرك الظاهر والخفي، وقيل: مؤسسة وفسر إخلاص الدين له تعالى بعبادته سبحانه لذاته من غير طلب شيء كقول رابعة: سبحانك ما عبدتك خوفًا من عقابك ولا رجاء ثوابك أو يفسر بتجريده عن الشرك بقسميه وأن يكون معه ما يشينه من غير ذلك كما أشير إليه آنفًا؛ والفرق بين هذا وقوله سبحانه: {قُلْ إِنّى أُمِرْتُ} [الزمر: 11] الخ أن ذاك أمر ببيان كونه عليه الصلاة والسلام مأمورًا بعبادته تعالى مخلصًا له الدين وهذا أمر بالإخبار بامتثاله بالأمر على أبلغ وجه وآكده إظهارًا لتصلته صلى الله عليه وسلم في الدين وحسمًا لأطماعهم الفارغة حيث إن كفار قريش دعوه صلى الله عليه وسلم إلى دينهم فنزلت لذلك وتمهيدًا لتهديدهم بقوله عز وجل: {فاعبدوا مَا شِئْتُمْ} أن تعبدوه {مِن دُونِهِ} عز وجل، وفيه من الدلالة على شدة الغضب عليهم ما لا يخفى كأنهم لما لم ينتهوا عما نهوا عنه أمروا به كي يحل بهم العقاب {قُلْ إِنَّ الخاسرين} أي الكاملين في الخسران وهو إضاعة ما بهم وإتلاف ما لابد منه لجمعهم أعاظم أنواع الخسران {الذين خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ} باختيارهم الكفر لهما فالمراد بالأهل أتباعهم الذين أضلوهم أي أضاعوا أنفسهم وأضاعوا أهليهم وأتلفوهما {يَوْمُ القيامة} حين يدخلون النار حيث عرضوهما للعذاب السرمدي وأوقعوهما في هلكة ما وراءها هلكة؛ ولو أبقى يوم القيامة على ظاهره لأنه يتبين فيه أمرهم ويتحقق مبدأ خسرانهم صح على ما قيل، وقيل: المراد بالأهل الاتباع مطلقًا وخسرانهم إياهم لأنهم إن كانوا من أهل النار فقد خسروا هم كما خسروا أنفسهم وإن كانوا من أهل الجنة فقد ذهبوا عنهم ذهابًا لا إياب بعده، وتعقب بأن المحذور ذهاب من لو آب لانتفع به الخاسر وذلك غير متصور في الشق الأخير، وقيل: المراد بالأهل ما أعده الله تعالى لمن يدخل الجنة من الخاصة أي وخسروا أهليهم الذين كانوا يكونون لهم في الجنة لو آمنوا.
أخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد عن قتادة قال: ليس أحد إلا قد أعد الله تعالى له أهلًا في الجنة إن أطاعه، وأخرج نحوه عن مجاهد، وروي أيضًا عن ميمون بن مهران وكلهم ذكروا ذلك في الآية، وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس أنه قال فيها أيضًا: خسروا أهليهم من أهل الجنة كانوا أعدوا لهم لو عملوا بطاعة الله تعالى فغبنوهم، وهو الذي يقتضيه كلام الحسن فقد روي عنه أنه فسر الأهل بالحور العين، ولا يخفى أن حمل الآية على ذلك لا يخلو عن بعد.
وأيًّا ما كان فليس المراد مجرد تعريف الكاملين في الخسران بما ذكر بل بيان أنهم المخاطبون بما تقدم إما بجعل الموصول عبارة عنهم أو بجعله عبارة عما هم مندرجون فيه اندراجًا أوليًّا، وما في قوله تعالى: {أَلاَ ذَلِكَ هُوَ الخسران المبين} من استئناف الجملة، وتصديرها بحرف التنبيه والإشارة بذلك إلى بعد منزلة المشار إليه في الشر وأنه لعظمه بمنزلة المحسوس وتوسيط ضمير الفصل وتعريف الخسران والإتيان به على فعلان الأبلغ من فعل ووصفه بالمبين من الدلالة على كمال هوله وفظاعته وأنه لا نوع من الخسر وراءه ما لا يخفى.
وقوله تعالى: {لَهُمْ مّن فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مّنَ النار} إلى آخره نوع بيان لخسرانهم بعد تهويله بطريق الإبهام على أن {لَهُمْ} خبر لظلل و{مِنْ} فوقهم متعلق بمحذوف حال من ضميرها في الظرف المقدم لا منها نفسها لضعف الحال من المبتدأ، وجعلها فاعل الظرف حينئذٍ اتباع لنظر الأخفش وهو ضعيف، و{مِنَ النار} صفة لظلل.
والكلام جار مجرى التهكم بهم ولذا قيل لهم وعبر عما علاهم من النار بالظلل أي لهم كائنة من فوقهم ظلل كثيرة متراكمة بعضها فوق بعض كائنة من النار {وَمِن تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ} كائنة من النار أيضًا، والمراد أطباق كثيرة منها وتسميتها ظللًا من باب المشاكلة.
وقيل هي ظلل لمن تحتهم في طبقة أخرى من طبقات النار ولا يطرد في أهل الطبقة الأخيرة من هؤلاء الخاسرين إلا أن يقال: إنها للشياطين ونحوهم مما لا ذكر لهم هنا، وقيل: إن ما تحتهم يلتهب ويتصاعد منه شيء حتى يكون ظلة فسمي ظلة باعتبار ما آل إليه أخيرًا وليس بذاك، والمراد أن النار محيطة بهم {ذلك} العذاب الفظيع {يُخَوّفُ الله بِهِ عِبَادَهُ} يذكره سبحانه لهم بآيات الوعيد ليخافوا فيجتنبوا ما يوقعهم فيه، وخص بعضهم العباد بالمؤمنين لأنهم المنفعون بالتخويف وعمم آخرون.
وكذا في قوله سبحانه: {قَلِيلًا وإياى فاتقون} ولا تتعرضوا لما يوجب سخطي، ويختلف المراد بالأمر على الوجهين كما لا يخفى، وهذه عظة من الله جل جلاله وعم نواله منطوية على غاية اللطف والرحمة.
وقرئ {فِى عِبَادِى} بالياء. اهـ.